
بقلم : وفاء النجار / العراق – البصرة
جالسًا مسترخيًا، لكنه بائس وحيد يتصفح هاتفه، رفيقه الوحيد (أقوى ما يمكنه التمسك به، وما دونه يمكنه الاستغناء عنهم بسهولة). هكذا شاهدته بنظرة خاطفة عندما مرت السيارة التي كانت فيها من أمام مكتبه.
ليلَتها، لم تنم، وصورته لم تفارق مخيلتها: لون قميصه وبنطاله، الفراغ الذي يحيط به، شعره وملامحه، جبينه ووجهه الأسمر، كل تفصيلة فيها تراها بدقة. السيارة تسير، والمشهد يعاد تكراره منذ تلك اللحظة بذاكرتها.
جمرة توقد من تحت الرماد، وجذوة حرارتها لهبت بنيرانها قلبًا يتناسى رغما عنه، مستسلما أمام صور عشقه المذبوح، وزاد وجعًا بدوره في نسج الخيوط المتقطعة عنوة منه، بإرجاعها وتَذَكُّر ما مضى من لقاءات بينهما: المكان، الزمان، وذاك الباب الذي فتح لاستقباله كضيف يزورهم لأول مرة، وهو يشرب فنجان قهوته بعد جلوسه، ومرة وهم يأكلون على طاولة الطعام.
كأن أركان الأمكنة تعالت صيحاتها: “هنا كنتم، وهنا، وهنا”، كل ركن بات يأن بدوره شوقًا للقياه مجددًا، يواسون، يناجون في آن واحد الليلة العزاء قائمًا في محفل الذكريات.
كانت مسيرة الثواني في رؤيته الشعلة التي لم تنطفئ، دموع من ألم الفراق مطالبة بالرجوع إليه، وتمردها بالرفض له؛ لعدم اكتراثه بمحبتها .
كم للمرء أن يقسو على نفسه بتحمل جهالة البعض أو تقبلهم بما يريدون على حساب نفسه! في الحالتين لا تزرَه الطمأنينة، ولا تحل ضيفًا بداره. فمن يأمله لم يحرك ساكنًا: “لا يسمن ولا يغني عن جوع”. ما فائدة الشيء إن لم يكن بنفس ما نرغب به؟ كيف نفيض في وعاءٍ مُخروم؟
إن تموت شوقًا اهون من أن تموت بيد باردة غريبة تتلذذ بعذابك وتنتظر المشهد القادم. ومن باب الإنصاف للنفس، تاج علوها باكرامها ، فحبل الود المقطوع عقدة إصلاحه مستحيلة.
تآوهت بنفس موجع واستسلمت مضنية بغفوة صغيرة بعد عناء ما حصل. لم يكن كافيًا وجعها، فقد زارها في منامها، رأته جاثمًا على ركبتيه يتوسلها بالعودة له، وهي متعالية عليه بالرفض، لا تنظر إليه حتى، مستديرة الظهر مستبدة في إذلاله.
عندها قام بعد يأسه مطأطئًا رأسه هامًا بالرحيل. استدارت نحوه، نادته باسمه، صوتها بعث في مسمعه الأمل، لكن سرعان ما بددته الصفعة على وجهه.
استيقظت متهللة بالسرور لأخذ ثأرها منه، بيد أنها وعَت أنها في فراشها، والوسادة مبللة بالدموع، والحزن خيم عليها، وهي تقول:
كم كنت قوية في المنام! ليتني هكذا.
إرسال التعليق